المسند - الإمام أحمد بن حنبل
Item Preview
There Is No Preview Available For This Item
This item does not appear to have any files that can be experienced on Archive.org.
Please download files in this item to interact with them on your computer.
Show all files
Share or Embed This Item
Flag this item for
المسند - الإمام أحمد بن حنبل
أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ / 780-855م) فقيه
ومحدِّث مسلم، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه
الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي، وكان معروفاً بالأخلاق الحسنة كالصبر والتواضع
والتسامح، وقد أثنى عليه كثير من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ
بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»، ويُعدُّ كتابه "المسند" من أشهر كتب الحديث
وأوسعها.
وُلد أحمد بن حنبل سنة 164هـ في بغداد ونشأ فيها يتيماً، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة
العالم الإسلامي، تزخر بأنواع المعارف والفنون المختلفة، وكانت أسرة أحمد بن حنبل توجهه إلى طلب
العلم، وفي سنة 179هـ بدأ ابن حنبل يتَّجه إلى الحديث النبوي، فبدأ يطلبه في بغداد عند شيخه
هُشَيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183هـ، فظل في بغداد يطلب الحديث حتى سنة 186هـ، ثم
بدأ برحلاته في طلب الحديث، فرحل إلى العراق والحجاز وتهامة واليمن، وأخذ عن كثير من العلماء
والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاماً في سنة 204هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس
يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف.
اشتُهر ابن حنبل بصبره على المحنة التي وقعت به والتي عُرفت باسم "فتنة خلق القرآن"، وهي فتنة
وقعت في العصر العباسي في عهد الخليفة المأمون، ثم المعتصم والواثق من بعده، إذ اعتقد هؤلاء
الخلفاء أن القرآن مخلوق محدَث، وهو رأي المعتزلة، ولكن ابن حنبل وغيره من العلماء خالفوا ذلك،
فحُبس ابن حنبل وعُذب، ثم أُخرج من السجن وعاد إلى التحديث والتدريس، وفي عهد الواثق مُنع من
الاجتماع بالناس، فلما تولى المتوكل الحكمَ أنهى تلك الفتنة إنهاءً كاملاً. وفي شهر ربيع الأول سنة
241هـ، مرض أحمد بن حنبل ثم مات، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة.
مولده:
وُلد أحمد بن حنبل في شهر ربيع الأول من سنة 164هـ، وهذا هو المشهور المعروف، وقد ذكر ذلك
ابنه صالح وابنه عبد الله، قال عبد الله: «سمعت أبي يقول: ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين
ومئة»، ولم يختلف الرواة في زمن ولادته كما اختلفوا في زمن ولادة الإمامين أبي حنيفة ومالك، وذلك
لأنه قد ذكر هو تاريخ هذه الولادة وكان على علم به.
أما موطن ميلاده فقد اختلف فيه المؤرخون، فقيل إنه وُلد بمرو في بلاد فارس حيث كان يعمل أبوه
وجده من قبل، وقيل إنه وُلد ببغداد بعد أن جاءت أمه حاملاً به من مدينة مرو التي كان بها أبوه، وهذا
الأخير هو القول الراجح عند جمهرة المؤرخين، فقد روي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال:
سمعت أبي يقول: «قدمت بي أمي حاملاً من خراسان، وولدت سنة أربع وستين ومئة».
طلبه للحديث النبوي:
كان بين يدي أحمد بن حنبل علمان من علوم الشريعة الإسلامية عليه أن يختار أحدهما، فهو إما أن
يختار مسلك الفقهاء، وإما أن يختار أن يكون راوياً من رواة الحديث وحافظاً من حفاظه، فقد ابتدأت
الطريقتان تتميزان في عصره، وابتدأ العلمان ينفصلان، ولقد كان في العراق المنزعان، فقد كان في بغداد
فقه العراق، كما كان فيها المحدثون الحفاظ.
اختار أحمد بن حنبل في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم، فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه
قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فقد رُوي أن أول تلقيه
كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ولكنه مال بعد ذلك إلى المحدثين الذين انصرفوا
بجملتهم للحديث، فقد قال: «أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف»، ولكنه لم يدم في الأخذ عنه،
فقد انصرف إلى المحدثين انصرافاً لم يقطعه عن الاطلاع على ما أنتجته عقول الفقهاء العراقيين من
فتاوى وأقضية وتخريج، بل إنه قد اطلع عليها، ولكن همته لم تكن إليها.
فقهه وأصول مذهبه:
إن أصول الاستنباط التي اتبعها أحمد بن حنبل وبنى فتاويه عليها، ثم صارت أصولاً للمذهب الحنبلي
وأصحابه من بعده هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وفتوى الصحابي، والإجماع، والقياس،
والاستصحاب، والمصالح، والذرائع. وقد ذكر ابن القيم أن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فتاويه
خمسة وهي:
أولاً: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولذلك قدم النص على فتاوى
الصحابة.
ثانياً: ما أفتى به الصحابة ولا يُعلم مخالف فيه، فإذا وجد لبعضهم فتوى ولم يعرف مخالفاً لها لم يتركها
إلى غيرها، ولم يقل إن في ذلك إجماعاً بل يقول من ورعه في التعبير: «لا أعلم شيئاً يدفعه».
ثالثاً: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم،
فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ:
قيل لأبي عبد الله: «يكون الرجل في قومه فيُسأل عن الشيء فيه اختلاف»، قال: «يفتي بما وافق
الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه».
رابعاً: الأخذ بالحديث المرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه
على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ
الذهاب إليه. قال ابن قدامة: مراسيل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الجمهور.
خامساً: القياس، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة أو واحد منهم، ولا
أثر مرسل أو ضعيف، ذهب إلى القياس، فاستعمله للضرورة كما قال ابن القيم، وقد رُوي عن الإمام
أحمد أنه قال: «سألت الشافعي عن القياس فقال: إنما يُصار إليه عند الضرورة». وقول أحمد بالقياس
واعتباره حجة في الأحكام الشرعية يتمشى مع منهجه السلفي، واتباع الصحابة رضوان الله عليهم على
وجه الخصوص، فقد استعملوا القياس.
شيوخه:
روى أحمد بن حنبل عن كثير من العلماء والأئمة ورواة الحديث، وقد جمعهم ابن الجوزي في كتاب "
مناقب الإمام أحمد بن حنبل" في الباب الخامس "في تسمية من لقي من كبار العلماء وروى عنهم" وقد
رتبهم على الحروف الأبجدية، ومنهم: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم أبو إسحاق الزهري، ومحمد بن
إدريس أبو عبد الله الشافعي، والمعتمر بن سليمان أبو محمد التيمي، ويحيى بن سعيد أبو سعيد القطان،
وعبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد الأزدي، ووكيع بن الجراح أبو سفيان الرؤاسي، ويزيد بن هارون أبو
خالد الواسطي، وعبد الرزاق بن همام، والوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي، وهشيم بن بشير أبو
معاوية الواسطي، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد أبو يوسف الزهري، وسفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي،
وإسماعيل بن إبان أبو إسحاق الورَّاق الأزدي، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي
المعروف بابن راهويه، وبشر بن السري أبو عمرو البصري، وثابت بن الوليد أبو جبلة الزهري، وعبد
العزيز بن أبان أبو خالد الأموي، وعمر بن أيوب أبو حفص العبدي، وعلي بن إبراهيم البناني المروزي،
وأحمد بن إبراهيم بن خالد، وإبراهيم بن إسحاق بن عيسى أبو إسحاق الطالقاني.
تلاميذه:
إنه من الصعوبة بمكان أن يُحصى تلاميذ مدرسة أحمد بن حنبل الذين جلسوا إليه وأخذوا عنه، وكتبوا
حديثه وسجلوا فقهه، وارتحلوا إلى حلقته من مختلف بقاع الأرض الإسلامية، فقد كانت مدرسته في
الفقه والحديث واحدة من المدارس الكبرى التي خرَّجت الكثير من العلماء والفقهاء والمحدثين،
ومنهم: عبد الملك الميموني، وأبو بكر المروذي، ومهنأ بن يحيى الشامي، وأبو بكر الأثرم، والوراق
أحمد بن محمد بن هاني، وإبراهيم بن هاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وإبراهيم بن إسحاق
الحربي، وبقيّ بن مخلد، وعبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، وإسحاق بن منصور التميمي المعروف
بأبي يعقوب العوسج، وأبو داوود السجستاني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج
النيسابوري، وصالح وعبد الله ابنا الإمام أحمد، وعمه إسحاق، وابن عمه حنبل.
ومن كبار تلاميذ أحمد بن حنبل وأصحابه أيضاً: أحمد بن محمد الكحال، وأبو طالب المشكاتي،
وإسماعيل الشاليخي، وبشر بن موسى، والحسن بن ثواب، والحسن بن زياد، ومثنى بن جامع، وأبو
الصقر يحيى، وأبو بكر بن محمد بن الحكم، وكثيرون غيرهم.
قلة انتشار المذهب وأسباب ذلك:
قل المعتنقون لمذهب أحمد بن حنبل في كل البلاد الإسلامية في العصور السابقة، حتى أنهم لم يكثروا
في سواد الأمة قط في الماضي، ومع كثرة العلماء في هذا المذهب ومع قوتهم في الاستنباط والاستدلال
وإطلاقهم لأنفسهم الحرية في الاستنباط، وإن تقاصرت الهمم في بعض العصور، كان أتباع المذهب من
العامة قليلاً، حتى أنهم لم يكونوا سواد شعب من الشعوب في وقت من الأوقات إلا ما كان من أمرهم
في نجد في القرن التاسع عشر، ثم في الحجاز وتهامة كلها في القرن العشرين منذ تأسيس المملكة
العربية السعودية والتي اعتمدته مذهباً رسمياً لها.
وأما أسباب قلة انتشار المذهب الحنبلي فقد أثار الباحثون ذلك السؤال وتصدوا للإجابة عنه، فقد قال
ابن خلدون: «وأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية
وللأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة
ورواية الحديث»،
واقترح بعض الباحثين أن جملة أمور تضافرت فمنعت المذهب الحنبلي من الذيوع والانتشار بين
العامة، ومن هذه الأسباب أنه جاء آخر المذاهب الأربعة وجوداً، وكان الإمام أحمد وأتباعه من بعده لا
يقربون السلطان ولا يحبون الولاية ولا يسعون إليها ولا يريدونها، تقليداً لإمامهم واتباعاً لمسلكه، فإذا
كان سلطان القضاة قد كان له أثره في نشر المذهب الحنفي بين أهل العراق، والمذهب المالكي
بالأندلس والمغرب، فإن عدم تولي الحنابلة القضاء قد كان سبباً في قلة ذيوع المذهب الحنبلي بين
العامة، وإن كان له علماء اجتهدوا فيه، وأخلصوا النية في اجتهاده. وقد لاحظ هذا المعنى ابن عقيل
الحنبلي فقال: «هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحد منهم
في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب
أحمد فإنه قل منهم من تعلق بطرف من العلم إلا يخرجه ذلك إلى التعبد والزهد، لغلبة الخير على
القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم».
ومن الأسباب في عدم انتشار المذهب الحنبلي أن البلاد الإسلامية عندما أخذ ذلك المذهب يذيع
وينمو قد اعتنقت مذاهب مختلفة، فالمذهب الحنفي كان في العراق، والشافعي كان في الحجاز وتهامة
والشام ومصر، والمالكي كان في المغرب وغير ذلك، وقد جاء الإمام أحمد بعد هؤلاء الأئمة، فجاء
مذهبه بعد مذاهبهم، ولكي يسود كان يجب أن يزيلها من طريقه أو يُضعف شأنها، ولم يكن في معتنقيه
تلك القوة، ولم يكن من الدولة عون، بل كانت أحوال معتنقيه تُنفِّر الناس والدولة، فاجتمع له ضعف
من العامة الذين اعتنقوه، ومحاربة من الناس والسلطان، وعدم وجود فراغ يملؤه.
انتشاره في العراق ثم اندثاره:
انتشر المذهب الحنبلي في أول أمره في العراق وبعض بلاد ما وراء النهر، وكانت له في بعض الأوقات
غلبة في بغداد، ولكن لم تلبث أن ضعفت بسبب الفتن التي كان يثيرها تشدد بعض الأتباع من العامة،
واتخاذ العنف سبيلاً لإظهار ذلك، ثم قل المقلدون له.
انتشاره في مصر ثم اندثاره:
لم يظهر المذهب الحنبلي في مصر إلا في القرن السابع الهجري، ولقد قال الإمام السيوطي في
الحنابلة: «وهم بالديار المصرية قليل جداً، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده،
وذلك أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان في القرن الثالث، ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن
الرابع، وفي هذا القرن ملك العبيديون مصر، وأفتوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة قتلاً ونفياً
وتشريداً، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة، ولم يزولوا منها إلا في أواخر القرن السادس، فتراجعت إليها
الأئمة من سائر المذاهب، وأول من علمتُ من الحنابلة حلوله بمصر الحافظ عبد الغني المقدسي
صاحب العمدة».
انتشاره في شبه الجزيرة العربية:
شهدت منطقة نجد من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الهجري انتشار المذهب الحنبلي فيها، وقد
شهد القرن العاشر الهجري بروز عدد من العلماء الحنابلة الذين كان لبعضهم إسهامات علمية في الفقه
الحنبلي، إلا أن مرحلة نهضة المذهب الحنبلي في العصر الحديث ارتبطت باسم محمد بن عبدالوهاب
(المتوفى سنة 1206هـ)، وقد قام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى بدعم الدعوة
الوهابية ومناصرتها، حتى أصبح المذهب الحنبلي المذهب الرسميّ للدولة السعودية، وكان من وسائل
انتشار المذهب الحنبلي كثرةُ المؤلفات والرسائل التي أعدّها علماء نجد لبيان ما عليه الدعوة الوهابية
التي خرجت من نجد.
ولم يكن المذهب الحنبلي منتشراً في إقليمي الحجاز وتهامة، وذلك لأن الأماكن الإسلامية المقدسة
كانت حقولاً علميةً مناسبةً لالتقاء جميع المذاهب الإسلامية، ومن المرجّح أن تكون نجد هي الموطن
الأساسي للمذهب، ومنها انتشر في جزيرة العرب، ومن المرجّح أيضًا أن المذهب أخذ شهرته في نجد
عن طريق الشام. وقد كانت أجزاء المملكة العربية السعودية في مطلع القرن الرابع عشر الهجري تنتشر
فيها المذاهب الفقهية الأربعة، حيث يتّبع أهل الأحساء المذهب المالكي بشكل عام، تبعًا لانتشاره في
الخليج العربي، ويوجد المذهب الشافعي في تهامة، وتجتمع المذاهب الأربعة في الحجاز وتهامة حيث
الحرمان الشريفان في المدينة ومكة، أما المذهب الحنبلي فيكاد ينحصر في نجد.
كما أن للحنابلة وجوداً في عُمان، حيث يتركز وجودهم في منطقة جعلان، وكذلك لهم وجود في بعض
قرى البريمي. وقد دخل المذهب الحنبلي إلى الكويت عن طريق الأسر النجدية التي نزحت إلى
الكويت، وكذلك بسبب الصلات العلمية والتجارية.
أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ / 780-855م) فقيه
ومحدِّث مسلم، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه
الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي، وكان معروفاً بالأخلاق الحسنة كالصبر والتواضع
والتسامح، وقد أثنى عليه كثير من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ
بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»، ويُعدُّ كتابه "المسند" من أشهر كتب الحديث
وأوسعها.
وُلد أحمد بن حنبل سنة 164هـ في بغداد ونشأ فيها يتيماً، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة
العالم الإسلامي، تزخر بأنواع المعارف والفنون المختلفة، وكانت أسرة أحمد بن حنبل توجهه إلى طلب
العلم، وفي سنة 179هـ بدأ ابن حنبل يتَّجه إلى الحديث النبوي، فبدأ يطلبه في بغداد عند شيخه
هُشَيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183هـ، فظل في بغداد يطلب الحديث حتى سنة 186هـ، ثم
بدأ برحلاته في طلب الحديث، فرحل إلى العراق والحجاز وتهامة واليمن، وأخذ عن كثير من العلماء
والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاماً في سنة 204هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس
يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف.
اشتُهر ابن حنبل بصبره على المحنة التي وقعت به والتي عُرفت باسم "فتنة خلق القرآن"، وهي فتنة
وقعت في العصر العباسي في عهد الخليفة المأمون، ثم المعتصم والواثق من بعده، إذ اعتقد هؤلاء
الخلفاء أن القرآن مخلوق محدَث، وهو رأي المعتزلة، ولكن ابن حنبل وغيره من العلماء خالفوا ذلك،
فحُبس ابن حنبل وعُذب، ثم أُخرج من السجن وعاد إلى التحديث والتدريس، وفي عهد الواثق مُنع من
الاجتماع بالناس، فلما تولى المتوكل الحكمَ أنهى تلك الفتنة إنهاءً كاملاً. وفي شهر ربيع الأول سنة
241هـ، مرض أحمد بن حنبل ثم مات، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة.
مولده:
وُلد أحمد بن حنبل في شهر ربيع الأول من سنة 164هـ، وهذا هو المشهور المعروف، وقد ذكر ذلك
ابنه صالح وابنه عبد الله، قال عبد الله: «سمعت أبي يقول: ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين
ومئة»، ولم يختلف الرواة في زمن ولادته كما اختلفوا في زمن ولادة الإمامين أبي حنيفة ومالك، وذلك
لأنه قد ذكر هو تاريخ هذه الولادة وكان على علم به.
أما موطن ميلاده فقد اختلف فيه المؤرخون، فقيل إنه وُلد بمرو في بلاد فارس حيث كان يعمل أبوه
وجده من قبل، وقيل إنه وُلد ببغداد بعد أن جاءت أمه حاملاً به من مدينة مرو التي كان بها أبوه، وهذا
الأخير هو القول الراجح عند جمهرة المؤرخين، فقد روي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال:
سمعت أبي يقول: «قدمت بي أمي حاملاً من خراسان، وولدت سنة أربع وستين ومئة».
طلبه للحديث النبوي:
كان بين يدي أحمد بن حنبل علمان من علوم الشريعة الإسلامية عليه أن يختار أحدهما، فهو إما أن
يختار مسلك الفقهاء، وإما أن يختار أن يكون راوياً من رواة الحديث وحافظاً من حفاظه، فقد ابتدأت
الطريقتان تتميزان في عصره، وابتدأ العلمان ينفصلان، ولقد كان في العراق المنزعان، فقد كان في بغداد
فقه العراق، كما كان فيها المحدثون الحفاظ.
اختار أحمد بن حنبل في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم، فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه
قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فقد رُوي أن أول تلقيه
كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ولكنه مال بعد ذلك إلى المحدثين الذين انصرفوا
بجملتهم للحديث، فقد قال: «أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف»، ولكنه لم يدم في الأخذ عنه،
فقد انصرف إلى المحدثين انصرافاً لم يقطعه عن الاطلاع على ما أنتجته عقول الفقهاء العراقيين من
فتاوى وأقضية وتخريج، بل إنه قد اطلع عليها، ولكن همته لم تكن إليها.
فقهه وأصول مذهبه:
إن أصول الاستنباط التي اتبعها أحمد بن حنبل وبنى فتاويه عليها، ثم صارت أصولاً للمذهب الحنبلي
وأصحابه من بعده هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وفتوى الصحابي، والإجماع، والقياس،
والاستصحاب، والمصالح، والذرائع. وقد ذكر ابن القيم أن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فتاويه
خمسة وهي:
أولاً: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولذلك قدم النص على فتاوى
الصحابة.
ثانياً: ما أفتى به الصحابة ولا يُعلم مخالف فيه، فإذا وجد لبعضهم فتوى ولم يعرف مخالفاً لها لم يتركها
إلى غيرها، ولم يقل إن في ذلك إجماعاً بل يقول من ورعه في التعبير: «لا أعلم شيئاً يدفعه».
ثالثاً: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم،
فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ:
قيل لأبي عبد الله: «يكون الرجل في قومه فيُسأل عن الشيء فيه اختلاف»، قال: «يفتي بما وافق
الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه».
رابعاً: الأخذ بالحديث المرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه
على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ
الذهاب إليه. قال ابن قدامة: مراسيل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الجمهور.
خامساً: القياس، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة أو واحد منهم، ولا
أثر مرسل أو ضعيف، ذهب إلى القياس، فاستعمله للضرورة كما قال ابن القيم، وقد رُوي عن الإمام
أحمد أنه قال: «سألت الشافعي عن القياس فقال: إنما يُصار إليه عند الضرورة». وقول أحمد بالقياس
واعتباره حجة في الأحكام الشرعية يتمشى مع منهجه السلفي، واتباع الصحابة رضوان الله عليهم على
وجه الخصوص، فقد استعملوا القياس.
شيوخه:
روى أحمد بن حنبل عن كثير من العلماء والأئمة ورواة الحديث، وقد جمعهم ابن الجوزي في كتاب "
مناقب الإمام أحمد بن حنبل" في الباب الخامس "في تسمية من لقي من كبار العلماء وروى عنهم" وقد
رتبهم على الحروف الأبجدية، ومنهم: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم أبو إسحاق الزهري، ومحمد بن
إدريس أبو عبد الله الشافعي، والمعتمر بن سليمان أبو محمد التيمي، ويحيى بن سعيد أبو سعيد القطان،
وعبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد الأزدي، ووكيع بن الجراح أبو سفيان الرؤاسي، ويزيد بن هارون أبو
خالد الواسطي، وعبد الرزاق بن همام، والوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي، وهشيم بن بشير أبو
معاوية الواسطي، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد أبو يوسف الزهري، وسفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي،
وإسماعيل بن إبان أبو إسحاق الورَّاق الأزدي، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي
المعروف بابن راهويه، وبشر بن السري أبو عمرو البصري، وثابت بن الوليد أبو جبلة الزهري، وعبد
العزيز بن أبان أبو خالد الأموي، وعمر بن أيوب أبو حفص العبدي، وعلي بن إبراهيم البناني المروزي،
وأحمد بن إبراهيم بن خالد، وإبراهيم بن إسحاق بن عيسى أبو إسحاق الطالقاني.
تلاميذه:
إنه من الصعوبة بمكان أن يُحصى تلاميذ مدرسة أحمد بن حنبل الذين جلسوا إليه وأخذوا عنه، وكتبوا
حديثه وسجلوا فقهه، وارتحلوا إلى حلقته من مختلف بقاع الأرض الإسلامية، فقد كانت مدرسته في
الفقه والحديث واحدة من المدارس الكبرى التي خرَّجت الكثير من العلماء والفقهاء والمحدثين،
ومنهم: عبد الملك الميموني، وأبو بكر المروذي، ومهنأ بن يحيى الشامي، وأبو بكر الأثرم، والوراق
أحمد بن محمد بن هاني، وإبراهيم بن هاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وإبراهيم بن إسحاق
الحربي، وبقيّ بن مخلد، وعبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، وإسحاق بن منصور التميمي المعروف
بأبي يعقوب العوسج، وأبو داوود السجستاني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج
النيسابوري، وصالح وعبد الله ابنا الإمام أحمد، وعمه إسحاق، وابن عمه حنبل.
ومن كبار تلاميذ أحمد بن حنبل وأصحابه أيضاً: أحمد بن محمد الكحال، وأبو طالب المشكاتي،
وإسماعيل الشاليخي، وبشر بن موسى، والحسن بن ثواب، والحسن بن زياد، ومثنى بن جامع، وأبو
الصقر يحيى، وأبو بكر بن محمد بن الحكم، وكثيرون غيرهم.
قلة انتشار المذهب وأسباب ذلك:
قل المعتنقون لمذهب أحمد بن حنبل في كل البلاد الإسلامية في العصور السابقة، حتى أنهم لم يكثروا
في سواد الأمة قط في الماضي، ومع كثرة العلماء في هذا المذهب ومع قوتهم في الاستنباط والاستدلال
وإطلاقهم لأنفسهم الحرية في الاستنباط، وإن تقاصرت الهمم في بعض العصور، كان أتباع المذهب من
العامة قليلاً، حتى أنهم لم يكونوا سواد شعب من الشعوب في وقت من الأوقات إلا ما كان من أمرهم
في نجد في القرن التاسع عشر، ثم في الحجاز وتهامة كلها في القرن العشرين منذ تأسيس المملكة
العربية السعودية والتي اعتمدته مذهباً رسمياً لها.
وأما أسباب قلة انتشار المذهب الحنبلي فقد أثار الباحثون ذلك السؤال وتصدوا للإجابة عنه، فقد قال
ابن خلدون: «وأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية
وللأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة
ورواية الحديث»،
واقترح بعض الباحثين أن جملة أمور تضافرت فمنعت المذهب الحنبلي من الذيوع والانتشار بين
العامة، ومن هذه الأسباب أنه جاء آخر المذاهب الأربعة وجوداً، وكان الإمام أحمد وأتباعه من بعده لا
يقربون السلطان ولا يحبون الولاية ولا يسعون إليها ولا يريدونها، تقليداً لإمامهم واتباعاً لمسلكه، فإذا
كان سلطان القضاة قد كان له أثره في نشر المذهب الحنفي بين أهل العراق، والمذهب المالكي
بالأندلس والمغرب، فإن عدم تولي الحنابلة القضاء قد كان سبباً في قلة ذيوع المذهب الحنبلي بين
العامة، وإن كان له علماء اجتهدوا فيه، وأخلصوا النية في اجتهاده. وقد لاحظ هذا المعنى ابن عقيل
الحنبلي فقال: «هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحد منهم
في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب
أحمد فإنه قل منهم من تعلق بطرف من العلم إلا يخرجه ذلك إلى التعبد والزهد، لغلبة الخير على
القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم».
ومن الأسباب في عدم انتشار المذهب الحنبلي أن البلاد الإسلامية عندما أخذ ذلك المذهب يذيع
وينمو قد اعتنقت مذاهب مختلفة، فالمذهب الحنفي كان في العراق، والشافعي كان في الحجاز وتهامة
والشام ومصر، والمالكي كان في المغرب وغير ذلك، وقد جاء الإمام أحمد بعد هؤلاء الأئمة، فجاء
مذهبه بعد مذاهبهم، ولكي يسود كان يجب أن يزيلها من طريقه أو يُضعف شأنها، ولم يكن في معتنقيه
تلك القوة، ولم يكن من الدولة عون، بل كانت أحوال معتنقيه تُنفِّر الناس والدولة، فاجتمع له ضعف
من العامة الذين اعتنقوه، ومحاربة من الناس والسلطان، وعدم وجود فراغ يملؤه.
انتشاره في العراق ثم اندثاره:
انتشر المذهب الحنبلي في أول أمره في العراق وبعض بلاد ما وراء النهر، وكانت له في بعض الأوقات
غلبة في بغداد، ولكن لم تلبث أن ضعفت بسبب الفتن التي كان يثيرها تشدد بعض الأتباع من العامة،
واتخاذ العنف سبيلاً لإظهار ذلك، ثم قل المقلدون له.
انتشاره في مصر ثم اندثاره:
لم يظهر المذهب الحنبلي في مصر إلا في القرن السابع الهجري، ولقد قال الإمام السيوطي في
الحنابلة: «وهم بالديار المصرية قليل جداً، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده،
وذلك أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان في القرن الثالث، ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن
الرابع، وفي هذا القرن ملك العبيديون مصر، وأفتوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة قتلاً ونفياً
وتشريداً، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة، ولم يزولوا منها إلا في أواخر القرن السادس، فتراجعت إليها
الأئمة من سائر المذاهب، وأول من علمتُ من الحنابلة حلوله بمصر الحافظ عبد الغني المقدسي
صاحب العمدة».
انتشاره في شبه الجزيرة العربية:
شهدت منطقة نجد من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الهجري انتشار المذهب الحنبلي فيها، وقد
شهد القرن العاشر الهجري بروز عدد من العلماء الحنابلة الذين كان لبعضهم إسهامات علمية في الفقه
الحنبلي، إلا أن مرحلة نهضة المذهب الحنبلي في العصر الحديث ارتبطت باسم محمد بن عبدالوهاب
(المتوفى سنة 1206هـ)، وقد قام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى بدعم الدعوة
الوهابية ومناصرتها، حتى أصبح المذهب الحنبلي المذهب الرسميّ للدولة السعودية، وكان من وسائل
انتشار المذهب الحنبلي كثرةُ المؤلفات والرسائل التي أعدّها علماء نجد لبيان ما عليه الدعوة الوهابية
التي خرجت من نجد.
ولم يكن المذهب الحنبلي منتشراً في إقليمي الحجاز وتهامة، وذلك لأن الأماكن الإسلامية المقدسة
كانت حقولاً علميةً مناسبةً لالتقاء جميع المذاهب الإسلامية، ومن المرجّح أن تكون نجد هي الموطن
الأساسي للمذهب، ومنها انتشر في جزيرة العرب، ومن المرجّح أيضًا أن المذهب أخذ شهرته في نجد
عن طريق الشام. وقد كانت أجزاء المملكة العربية السعودية في مطلع القرن الرابع عشر الهجري تنتشر
فيها المذاهب الفقهية الأربعة، حيث يتّبع أهل الأحساء المذهب المالكي بشكل عام، تبعًا لانتشاره في
الخليج العربي، ويوجد المذهب الشافعي في تهامة، وتجتمع المذاهب الأربعة في الحجاز وتهامة حيث
الحرمان الشريفان في المدينة ومكة، أما المذهب الحنبلي فيكاد ينحصر في نجد.
كما أن للحنابلة وجوداً في عُمان، حيث يتركز وجودهم في منطقة جعلان، وكذلك لهم وجود في بعض
قرى البريمي. وقد دخل المذهب الحنبلي إلى الكويت عن طريق الأسر النجدية التي نزحت إلى
الكويت، وكذلك بسبب الصلات العلمية والتجارية.
- Addeddate
- 2011-04-09 15:10:18
- Identifier
- MusnadAhmedShakerZain
- Identifier-ark
- ark:/13960/t9t15vj7v
- Ocr
- language not currently OCRable
- Page-progression
- rl
- Ppi
- 300
comment
Reviews
There are no reviews yet. Be the first one to
write a review.